الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
المسألة:
لقد وردت كثير من النصوص النبوية في بيان فضل قراءة بعض سور القرآن الكريم وما يترتب على ذلك من الأجر العظيم عند الله تعالى، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يخص بعض سور القرآن بالقراءة في بعض الصلوات؛ كقراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة فجر يوم الجمعة، وقراءة سورتي الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة؛ إلا أنه يلاحظ أن بعض الأئمة يقرأ سورتي الجمعة والمنافقون أو شيء منهما في صلاة عشاء ليلة الجمعة، وأن البعض يقتصر على قراءة شيء من سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة مستغنياً عن قراءتهما كاملتين، فما مشروعية هذا الفعل، وهل ثبت في حكم ذلك شيء من النصوص والآثار وأقوال العلماء؟ وهل يوصف من خالف الثابت في ذلك بأنه مبتدع؟
ولبحث هذه المسألة يمكن تقسيمها إلى الفروع الآتية:
الفرع الأولى
النصوص الواردة في فضل هذه السور والعمل بها
دلت السنة النبوية على فضل بعض هذه السور من حيث الجملة كالآتي :
1) ما ورد في فضل سورتي الجمعة والمنافقون:
سورة الجمعة والمنافقون من سور المفصَّل التي ورد في فضلها حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعطِيتُ مَكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وَمَكانَ الزَّبورِ المِئينَ، وَمَكانَ الإِنْجِيلِ المَثاني، وَفُضِّلْتُ بالمُفَصَّلِ»(1).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتَانِي رَبِّي السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكانَ التَّوْرَاةِ، وَالمِئينَ مَكانَ الإِنْجِيلِ، وفُضِّلْتُ بِالمُفَصَّلِ»(2).
2) ما ورد في فضل سورة السجدة:
ورد في فضل سورة السجدة عدة أحاديث منها :
أ - حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ ﴿أَلَم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةِ وَ﴿ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ ﴾»(3).
وقد روي في بعض المصادر الحديثية حديث طويل في فضل سور القرآن مفصَّلة على ترتيب المصحف، من حديث أبيِّ بن كعب، وفيه:
* فضل سورة الجمعة:
«مَنْ قرأَ سُورةَ الجُمعةِ أُعطِيَ منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ أتَى الجمعةَ وبعدد مَنْ لَم يأتِهَا في أمصارِ المسلمينَ».
قال الزيلعي: «رواه الثعلبي حدثنا أبو موسى عمران بن موسى ثنا مكي بن عبدان ثنا سليمان ثنا أبو معاذ عن أبي عصمة عن زيد العمي عن أبي نضرة عن ابن عباس عن أبي بن كعب ... ورواه ابن مردويه في تفسيره بسنديه في آل عمران. ورواه الواحدي في تفسيره الوسيط بسنده المتقدم في سورة يونس»(4).
وقال المناوي: «موضوع»(5).
* فضل سورة المنافقون:
«مَنْ قَرأ سورةَ المنافقينَ برىءَ من النفاقِ».
قال الزيلعي: «رواه الثعلبي من طريق ابن أبي داود ثنا محمد بن عاصم ثنا شبابة ثنا مخلد ابن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره. ورواه ابن مردويه في تفسيره بسنديه في آل عمران. ورواه الواحدي في الوسيط بسنده في سورة يونس»(6).
وقال المناوي: «موضوع»(7).
* فضل سورة السجدة:
«مَن قرأَ (الم تنزيلُ) و(تباركَ الذي بـيدِه الملكُ) في يوم وليلة، فكأنما وافق ليلةَ القدرِ».
رواه ابن الضريس في فضائل القرآن(8).
وفي رواية : «أعطي من الأجر كأنما أحيى ليلة القدر».
قال المناوي: «قال الولي العراقي: رواه الثعلبي والواحدي وابن مردويه من حديث أبي بن كعب»(9).
ومما روي في فضل سورة السجدة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأَ (الم تنزيلُ) في بـيتِه لم يدخُلْه الشَّيطانُ ثلاثةَ أيَّامٍ».
قال السيوطي في جامع الأحاديث: «رواه الديملي عن فروة الأشجعي».
وقال المناوي: «قال الولي العراقي: لم أقف عليه، وقال الحافظ ابن حجر: لم أجده.
ورواه الثعلبي أيضاً من حديث ابن عباس عن أُبي، ورواه ابن مردويه من حديث ابن عمر. قال العراقي: وكلها موضوعة. قال الحافظ ابن حجر: في إسناده داود بن معاذ، وهو ساقط»(10).
وقال الزيعلي: «غريب جداً»(11).
ومما روي أيضاً في فضل السجدة :
«مَنْ قَرَأَ (الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَة و(تَبارَكَ) قَبلَ النَّومِ نَجا مِن عَذابِ القَبرِ وَوُقِيَ الفَتَّانِينِ، وَمَن قَرأَ عَشْرَ آياتٍ مِن سورَةِ الكَهفِ مُلِئَ مِن قَرْنِهِ إلى دَقْمِهِ إِيماناً» .
قال السيوطي : «رواه أبو الشيخ والديلمي عن البراء، وفيه سوار بن مصعب متروك»(12).
* فضل سورة الإنسان:
«مَنْ قرأَ سورةَ هَل أَتَى كانَ جزاؤُه على الله تعالَى جنةً وحريراً».
رواه ابن الشجري في أماليه(13).
وقال الزيعلي: «رواه الثعلبي أخبرنا باقل بن أرقم ثنا محمد بن شادة ثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا محمد بن يحيى ثنا سلم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زر عن أبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فذكره.
ورواه ابن مردويه في تفسيره بسنده الثاني في آل عمران
ورواه الواحدي في تفسيره الوسيط بسنده المتقدم في يونس»(14).
وقال المناوي: «موضوع» (15) .
الفرع الثاني
تخصيص بعض هذه السور بقراءتها في الصلاة
وردت بعض النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه كان يخص بعض الصلوات ببعض هذه السور، وهذه الأحاديث منها ما هو صحيح ثابت، ومنها ما هو ضعيف؛ ومن ذلك :
1) ما ورد في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة:
عن أبي رافع قال: «اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى المَدِينَةِ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى لَنَا أَبُوهُرَيْرَةَ الجُمُعَةَ، فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الجُمُعَةِ في الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ ﴿إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ﴾، قَالَ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ حِينَ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الجُمُعَةِ»(16).
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أَنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَقْرَأُ فِى صَلاَةِ الجُمُعَةِ سُورَةَ الجُمُعَةِ وَالمُنَافِقِينَ»(17).
2) ما ورد في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الجُمُعَةِ ، في صَلاةِ الفَجْرِ : ﴿الم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةِ و﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ﴾»(18).
وورد أيضاً ضمن حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَقْرَأُ في صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ ﴿الم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةُ وَ ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾...» الحديث.
3) ما ورد في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الجمعة والمنافقون في عشاء ليلة الجمعة:
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في صَلاةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ سُورَةَ الجُمُعَةِ وَالمنافِقِينَ»(19).
الفرع الثالث
حكم قراءة سورتي الجمعة والمنافقون في صلاة العشاء ليلة الجمعة
أقوال الفقهاء:
اختلف الفقهاء في حكم قراءة سورتي الجمعة والمنافقون في صلاة العشاء ليلة الجمعة على قولين:
القول الأول: أنه يستحب قراءتهما في ليلة الجمعة. وهو مذهب الشافعية، ورواية عند الحنابلة.
القول الثاني: تكره قراءتهما في ليلة الجمعة. وهو مذهب الحنابلة.
ولم أقف للحنفية والمالكية على قول في هذه المسألة.
وهذه نصوص الفقهاء في المسألة:
قال الماوردي: «وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في صلاة العشاء من ليلة الجمعة بسورة الجمعة»(20).
وقال النووي: «ويقرأ في الأوليين من العشاء الآخرة بنحو ما يقرأ في العصر، لما روي عنه | أنه قرأ في العشاء الآخرة سور الجمعة والمنافقون»(21).
وقال البجيرمي: «ويستحب أيضاً قراءة الجمعة والمنافقون في صلاة العشاء ليلة الجمعة، كما ورد عن ابن حبان بسند صحيح، وقد كان السبكي يفعله، فأنكر عليه بأنه ليس في كلام الرافعي، فرد على المنكر بما مر -أي من ورود الحديث- وكم من مسائل لم يذكرها الرافعي . فعدم ذكره لها لا يستلزم عدم سنيتها »(22).
وقال الدمياطي: «وقوله (سورة الجمعة والمنافقون)؛ أي: لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في عشاء ليلة الجمعة بالجمعة والمنافقون، وفي مغربها بالكافرون والإخلاص»(23).
نقل الحافظ ابن رجب عن حبيب بن أبي ثابت قال: «كانوا يستحبون أن يقرءوا ليلة الجمعة سورة الجمعة، كي يعلم الناس أن الليلة ليلة الجمعة».
ثم حكى عن الخلال أنه نقل رواية عن الإمام أحمد توافق ما ذهب إليه الشافعية من عدم القول بكراهة القراءة بهما في عشاء ليلة الجمعة؛ فقال:
«وروى الخلال من طريق الحسن بن حسان قال: قلت لأحمد: فنقرأ في ليلة الجمعة بسورة الجمعة؟ قال: لا بأس، ما سمعت بهذا شيئاً أعلمه، ولكن لا يدمن، ولا يجعله حتماً».
وقد عمل بهذا أبو عثمان الصابوني كما نقل ذلك أيضاً الحافظ ابن رجب ، حيث قال: «...وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين. أخرجه الحاكم والبيهقي، وروي عن أبي عثمان الصابوني أنه صححه، وكان يعمل به حضراً وسفراً»(24).
إلا أن الصحيح من مذهب الحنابلة هو القول بكراهة القراءة بهما في عشاء ليلة الجمعة.
قال ابن رجب: «قال حرب: قلت لأحمد: فنقرأ ليلة الجمعة في العتمة بسورة الجمعة و(سبح اسم ربك الأعلى)؟ قال: لا؛ لم يبلغني في هذا شيء، وكأنه كره ذلك»(25).
وقال المرداوي: «الصحيح من المذهب أنه يكره قراءة سورة الجمعة في ليلة الجمعة، زاد في الرعاية: والمنافقين. وعنه: لا يكره»(26).
وقال البهوتي: «وتكره القراءة بسورة الجمعة في عشاء ليلة الجمعة، زاد في الرعاية: والمنافقين»(27).
وقال في موضع آخر: «وتكره القراءة في عشاء ليلتها بسورة الجمعة، زاد في الرعاية: والمنافقين، ولعل وجهه أنه بدعة»(28).
الفرع الرابع
حكم قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة
أقوال الفقهاء:
اختلف الفقهاء في حكم قراءة السجدة والإنسان في فجر الجمعة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يستحب قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة والمداومة عليهما.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
إلا أن المشهور عند الحنابلة كراهة المداومة عليهما مطلقاً؛ خشية اعتقاد وجوب القراءة بهما، أو اعتقاد أنها مفضلة بسجدة فيها.
وللحنابلة احتمال باستحباب المداومة كمذهب الشافعية(29) .
القول الثاني: تكره المداومة على قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة. ويجوز قراءتهما من غير تعيين. وهو مذهب الحنفية.
القول الثالث: تكره قراءة آية سجدة في صلاة الفريضة مطلقاً. وهو مذهب المالكية.
وهذه نصوص الفقهاء في المسألة:
1) مذهب الحنفية:
يقول ابن نجيم: «قوله (ولم يتعين شيء من القرآن لصلاة) لإطلاق قوله تعالى: ﴿فاقرءوا ما تيسر من القرآن﴾ أراد بعدم التعيين عدم الفرضية، وإلا فالفاتحة متعينة على وجه الوجوب لكل صلاة.
وأشار إلى كراهة تعيين سورة لصلاة لما فيه من هجر الباقي، وإيهام التفضيل؛ كتعيين سورة السجدة و(هل أتى على الإنسان) في فجر كل جمعة، و(سبح اسم ربك) و(قل يا أيها الكافرون) و(قل هو الله أحد) في الوتر. كذا في الهداية وغيرها.
وظاهره أن المداومة مكروهة مطلقاً، سواء اعتقد أن الصلاة تجوز بغيره أو لا ؛ لأن دليل الكراهة لم يفصِّل، وهو إيهام التفضيل وهجر الباقي؛ فحينئذ لا حاجة إلى ما ذكره الطحاوي والاسبيجابي من أن الكراهة إذا رآه حتماً يُكره غيره. أما لو قرأ للتيسير عليه، أو تبركاً بقراءته فلا كراهة، لكن بشرط أن يقرأ غيرها أحياناً لئلا يظن الجاهل أن غيرها لا يجوز. اهـ.
والأولى أن يُجعل دليل كراهة المداومة إيهام التعيين لا هجر الباقي؛ لأنه إنما يلزم لو لم يقرأ الباقي في صلاة أخرى»(30).
ويقول البابرتي: «يكره أن يعين المصلي شيئاً من القرآن مثل (الم) السجدة، و(هل أتى على الإنسان) لشيء من الصلوات؛ كالفجر يوم الجمعة، لا على أنه لا يجوز بغيرها، وهو أيضاً احتراز عن مذهب الشافعي؛ فإنه قال: يستحب ذلك لحديث ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤهما في صلاة الفجر)؛ فكيف يكون مكروهاً، وقلنا: إن في ذلك هجر الباقي وإيهام التفضيل بلا دليل، وذلك مكروه لقوله تعالى: ﴿وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً﴾ شكا الرسول صلى الله عليه وسلم قومه قريشاً إلى ربه باتخاذهم القرآن مهجوراً، وهو يوجب الحرمة لولا رواية الجواز بغيرها، فمعها يكون مكروهاً.
لا يقال: ليس في ذلك هجر، وإنما هو تفضيل بدليل، وهو ما روينا من حديث ابن مسعود؛ لأنه معارض بما روى جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر (ق)، وبما روي أنه عليه الصلاة والسلام أقام بتبوك أربعين ليلة، وكان يقرأ في الفجر الفاتحة، و(إذا زلزلت)، فعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما واظب على ذلك، ففي استحباب المواظبة مخالفة له عليه الصلاة والسلام، وحمْل لصلاته على غير المستحب، ولا كراهة أعظم من ذلك.
نعم لو فعل ذلك أحياناً كما فعله عليه الصلاة والسلام، قلنا باستحبابه؛ لتبركه بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم »(31).
قال سحنون: «وقال مالك: لا أحب للإمام أن يقرأ في الفريضة بسورة فيها سجدة؛ لأنه يخلط على الناس صلاتهم.
قال: وسألنا مالكاً عن الإمام يقرأ السورة في صلاة الصبح فيها سجدة؟ فكره ذلك.
وقال: أكره للإمام أن يتعمد سورة فيها سجدة فيقرأها؛ لأنه يخلط على الناس صلاتهم، فإذا قرأ سورة فيها سجدة سجدها»(32).
وقال القرطبي مشيراً إلى قول مالك بكراهة قراءة آية سجدة في الصلاة:
«وسجوده صلى الله عليه وسلم في صلاة صبح الجمعة عند قراءة السجدة دليل على جواز قراءة السجدة في صلاة الفريضة، وقد كرهه في المدونة. وعُلِّل بخوف التخليط على الناس، وقد علل بخوف زيادة سجدة في صلاة الفرض، وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث»(33).
قال النووي: «فإن كان يوم الجمعة استحب أن يقرأ فيها (الم تنزيل) السجدة و(هل أتى على الإنسان)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ذلك»(34).
وقال الدمياطي: «(وقوله: في صبحها الخ) أي: ويسن في صبحها ما ذكر؛ لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم تنزيل) في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية (هل أتى) وتسن المداومة عليهما»(35).
وذهب بعض الشافعية إلى أنه لا يستحب المداومة عليهما، وهو ما ذهب إليه أبو إسحاق المروزي وابن أبي هريرة؛ قال الخطيب الشربيني:
«وعن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: لا تستحب المداومة؛ ليعرف أن ذلك غير واجب.
وقيل للشيخ عماد الدين بن يونس: إن العامة صاروا يرون قراءة السجدة يوم الجمعة واجبة، وينكرون على من تركها، فقال: تقرأ في وقت، وترك في وقت؛ فيعلمون أنها غير واجبة»(36).
يقول ابن أبي عمر المقدسي: «ويستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم) السجدة، و(هل أتى على الإنسان)، نص عليه؛ لما روى ابن عباس وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم تنزيل) و(هل أتى على الإنسان حين من الدهر) رواه مسلم.
قال أحمد: لا أحب المداومة عليها؛ لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة. ويحتمل أن يستحب؛ لأن لفظ الخبر يدل عليه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملاً أثبته»(37).
ويقول المرداوي: «يستحب أن يقرأ في فجر يوم الجمعة في الركعة الأولى (الم) السجدة، وفي الثانية (هل أتى على الإنسان) قال الشيخ تقي الدين: لتضمنهما ابتداء خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان إلى أن يدخل الجنة أو النار»(38).
ويقول الرحيباني: «(وتكره مداومتهما) نصًّا؛ لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة أو الوجوب. (ويتجه: وكذا) تكره مداومة (كل سنة) غير راتبة (خيف اعتقاد وجوبها) خصوصاً إذا كان مداوم ذلك ممن يقتدى به»(39).
أدلة الأقوال:
استدل الحنفية لقولهم بالكراهة بما يلي :
أ - إن في تخصيص سورة بعينها فيه هجر لباقي القرآن.
ب- إن التخصيص فيه إيهام بتعيين سورة بعينها واعتقاد وجوبها.
ج- إن المداومة فيه مخالفة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث لم يرداوم على هذه السور بعينها؛ بدليل ما روى جابر بن سَمُرة قال: «إِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ في الفَجْرِ بـ( ق وَالقُرْءَانِ المَجِيدِ)، وَكَانَ صَلاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفاً»(40)، وما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم «أَقَامَ بِتَبوكَ أَربَعِينَ لَيلَةً، وَكَانَ يَقْرَأُ في الفَجْرِ الفَاتِحَةَ وَ(إِذَا زُلْزِلَت)» (41).
واستدل المالكية للقول بالكراهة بما يلي :
أ - أن القراءة بالسجدة في فرض الصلاة فيه تخليط على الناس في صلاتهم.
ب- أن سجدة التلاوة فيها زيادة سجدة في صلاة الفرض.
أما الشافعية والحنابلة فاستدلوا لمذهبهم القائل بالاستحباب بما يلي :
أ - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الجُمُعَةِ ، في صَلاةِ الفَجْرِ : ﴿الم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةِ و﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ﴾».
ب- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ يَقْرَأُ في صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ ﴿الم تَنْزِيلُ﴾ السَّجْدَةُ وَ ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾...» الحديث.
فالحديثان صريحان في استحباب قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة، ودلالة (كان) في الحديث يشير إلى أنه فعله على سبيل الدوام أو هو الغالب.
أما القول باستحباب المداومة فاستدل له الشافعية بما يلي:
أ - حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَقْرَأُ في صَلاة الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ (الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَةِ، وَ(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ) يُدِيمُ ذَلِكَ»(42).
ب- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في كُلِّ جُمْعَةٍ في صَلاةِ الغَدَاةِ: (الم تَنْزِيلُ) وَ (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ)» (43).
أما الحنابلة فعللوا القول بكراهة المداومة على قراءة السجدة بأنه يخشى من ذلك أن يظن الناس أن هذه الصلاة مفضلة بسجدة أو أنها واجبة.
الفرع الخامس
حكم الاقتصار على قراءة جزء من سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة
يظهر مما سبق بيانه من كلام العلماء في قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة اتفاقهم على أن السنة لمن قرأ بهاتين السورتين في فجر الجمعة أن يقرأهما كاملتين، لكون ذلك هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أيضاً ترك قراءتهما. إلا أنهم كرهوا القراءة بشيء منها من غير إتمام وعدّوا ذلك مخالفاً للسنة ، أو خلاف الأولى الذي هو موافقة فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في كلامهم ما يدل على وصف من فعل ذلك بالبدعة.
وهذه نقول الفقهاء في ذلك:
قال برهان الدين مازه: «ولو قرأ بعض السورة في ركعة، والبعض في ركعة أخرى، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا : يكره؛ لأنه خلاف ما جاء به الأثر، وذكر عيسى بن أبان رحمه الله في كتاب الحج أنه لا يكره، وروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، وروى حديثاً بإسناد له عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قرأ في صلاة الفجر سورة بني إسرائيل، فلما بلغ أنهى التلاوة ركع وسجد، ثم قام إلى الثانية وختم السورة»(44).
قال النووي(45): «واتفقوا على أنه يسن في صبح يوم الجمعة (الم تنزيل) في الركعة الأولى و(هل أتى) في الثانية للحديث الصحيح السابق، ويقرأ السورتين بكمالهما».
وقال الخطيب الشربيني: «فإن ترك (الم) في الأُولى سن أن يأتي بها في الثانية، فإن اقتصر على بعضهما ، أو قرأ غيرهما خالف السنة»(46).
وفي كلام الشافعية ما يدل على جواز الاقتصار على قراءة شيء من هاتين السورتين في فجر الجمعة إذا ضاق الوقت عن قراءتهما جميعاً؛ فيقول الدمياطي:
«قوله: وعند ضيق وقت» متعلق بأفضل بعده. قوله: (سورتان قصيرتان أفضل) هذا عن ابن حجر، وعند «م ر»(47) بعضهما أفضل، وعبارته: لو ضاق الوقت عن قراءة جميعها، قرأ ما أمكن منها ولو آية سجدة، وكذا في الأخرى يقرأ ما أمكنه من «هل أتى»، فإن قرأ غير ذلك كان تاركاً للسنة. قاله الفارقي وغيره، وهو المعتمد وإن نوزع فيه... قوله: (خلافاً للفارقي) عبارة المغني: قال الفارقي: ولو ضاق الوقت عنهما أتى بالممكن، ولو آية السجدة، وبعض هل أتى على الإنسان»(48).
وقال الرملي: «ولو ضاق الوقت عن قراءة جميعها قرأ ما أمكن منها ولو آية السجدة، وكذا في الأخرى يقرأ ما أمكنه من «هل أتى»، فإن قرأ غير ذلك كان تاركاً للسنة، قاله الفارقي وغيره، وهو المعتمدة وإن نوزع فيه»(49).
قال ابن تيمية(50): «وسئل عمن قرأ سورة السجدة يوم الجمعة: هل المطلوب السجدة؛ فيجزئ بعض السورة والسجدة في غيرها؟ أم المطلوب السورة؟
فأجاب: الحمد لله، بل المقصود قراءة السورتين : (الم تنزيل) و(هل أتى على الإنسان) لما فيهما من ذكر خلق آدم وقيام الساعة وما يتبع ذلك؛ فإنه كان يوم الجمعة، وليس المقصود السجدة، فلو قصد الرجل قراءة سورة سجدة أخرى كُره ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورتين كلتيهما؛ فالسنة قراءتهما بكمالهما. ولا ينبغي المداومة على ذلك لئلا يظن الجاهل أن ذلك واجب، بل يقرأ أحياناً غيرهما من القرآن. والشافعي وأحمد اللذان يستحبان قراءتهما، وأما مالك وأبو حنيفة عندهما يُكره قصد قراءتهما».
وقال ابن القيم(51): « وكذلك كان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة (الم تنزيل) السجدة، وسورة (هل أتى على الإنسان) كاملتين في الركعتين مع قراءته المترسلة على مهله وتأن، فعطّل كثير من الأئمة ذلك واقتصروا على هذه وهذه، وعلى إحدى السورتين في الركعتين، ومن يقرأ بهما كاملتين فكثير منهم يقرأ بهما بسرعة، وهذا مكروه للإمام، وكل هذا فرار من هديه». وانظر: زاد المعاد (1/202).
وقال ابن مفلح (52): «ويُكره تحرِّيه قراءة سجدة غيرها، والسُّنة إكمالها»؛ أي: يكره تحري سورة فيها سجدة في فجر الجمعة غير سورة السجدة، ويُسن له إكمالها بتمامها.
وقال البهوتي (53): «(والسنة إكمالهما) أي السورتين في الركعتين لما تقدم».
الخاتمة:
يتلخص مما سبق عرضه من نصوص وأقوال أئمة المذاهب ما يلي:
1- تعد سورة الجمعة والمنافقون من السور التي ورد النص بفضلهما باعتبارهما من سور المفصل، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «وفضِّلت بالمفصَّل».
2- ثبتت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة كما في حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم عند الإمام مسلم في صحيحه.
3- الحديث الوارد في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الجمعة والمنافقون في صلاة العشاء ليلة الجمعة من حديث جابر بن سمرة، حديث معلول؛ فيه راوٍ متروك.
4- ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة فجر يوم الجمعة، كما يدل له حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم في الصحيحين.
5- ذهب الشافعية والحنابلة في رواية إلى استحباب قراءة الجمعة والمنافقون في صلاة العشاء. والصحيح من مذهب الحنابلة كراهة القراءة بهما في عشاء ليلة الجمعة.
6- لم أقف على قول للحنفية والمالكية في حكم قراءة الجمعة والمنافقون في صلاة عشاء ليلة الجمعة.
7- ذهب الحنفية والمالكية إلى كراهة تعمد تخصيص صلاة الفجر يوم الجمعة بقراءة سورتي السجدة والإنسان ؛ لما في المداومة على ذلك من هجر لباقي القرآن، ولما في المداومة عليهما ظن عامة الناس وجوب ذلك -كما هو مذهب الحنفية- ، ولما فيه من زيادة سجدة في فرض الصلاة ، والتخليط على الناس في صلاتهم-كما هو مذهب المالكية-.
8- ذهب الشافعية والحنابلة إلى استحباب قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة ، إلا أن الشافعية ذهبوا إلى استحباب المداومة عليها، بينما الحنابلة لم يستحبوا المداومة على ذلك خشية أن يظن الناس أن فجر الجمعة مفضلة بسجدة.
وللشافعية قول آخر، وللحنابلة احتمال، خالفا فيه مذهبيهما في المداومة على قراءتهما.
9- اتفق الفقهاء على أن الإمام إذا قرأ سورة السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة، فإن السنة أن يقرأهما كاملتين، وإن قرأ بشيء منهما من غير أن يتمهما فإنه خلاف الأولى؛ لمخالفة السنة ، ولم يرد في كلامهم ما يدل على أن فاعل ذلك موصوف بالبدعة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وحدة البحث العلمي
بإدارة الإفتاء